ماتيس .. الباحث عن امتزاج الشرق والغرب


بقلم: سراج محمود






وكأن كليهما في جزيرته الخاصة.. يسبح الفن الغربي في طريقه بينما يتباطأ الفن الشرقي في طريق آخر.. غير أن لحظات سريعة تعبر عن التقائهما في مناطق غالبا ما يعمقها اهتمام الغرب بخصوصيتنا الفنية. ومن هؤلاء يأتي الفنان الفرنسي (هنري ماتيس) 1869- 1952 ليكون واحدا من أكثر المهتمين بالفن الشرقي. تفاعل معه وتعمق في استلهام تراثه الدلالي واستخدام ألوانه في تجاوز ساحر. وهو فوق ذلك كله استطاع أن يمزج رؤيتين مختلفتين تماما ويخلق منهما روحا واحدة عن طريق رسمه للموديل في إطار من الزخرفة الإسلامية.


واليوم تمر أكثر من مئة عام على لوحات (ماتيس) التي رسمها من وحي زيارته لشمال أفريقيا (المغرب والجزائر) والتي أسست لعلاقة جديدة بين مناطق الفن الشرقي والغربي.. وهو ما يجعله جديرا بالقراءة الفنية والوقوف على أعماله باعتبارها محطة في غاية الأهمية رائعة تلك اللحظات التي يسجلها التاريخ لالتقاء الفن في الشرق والغرب، خلال علاقة مديدة تحكمها عدة متغيرات وتتحكم فيها المنظورات الثقافية المختلفة والخصوصيات المكانية المتباينة.. غير أن أول بداية حقيقية يسجلها التاريخ الفني الحديث تعود لحوالي مئتي عام وعبر مجموعة من رواد التشكيل الأروبيين.


حين سعت مجموعة من الرسامين في الغرب إلى اقتحام عزلة الشرق وأسواره العالية، من أجل اقتناص خصوصيته المتميزة والتفاعل معها إثراء للتجربة الإنسانية ككل. وعلى ذلك بدأت رحلات (أوجين دولاكروا) أول من قام برحلة الى الأندلس والمغرب، و(هنري رينيو) الذي استقر في المغرب في 1869 و(ماركية وجيمس موريس) وغيرهم.. وكل هؤلاء وضعوا الأساس المعرفي للتعامل مع الرؤية التشكيلية في الشرق. ونقلوا ما افادوه إلى لوحاتهم التي تعد إرهاصا للمزج الفني بين طرفي العالم.. غير أن الأجيال اللاحقة لهذه الطليعة التشكيلية كانت أكثر تطلعا للبحث عن صيغة خاصة للمزج بين الفن التشكيلي في الشرق والغرب ومحاولة خلق لوحات تحمل تناغمها وانسجامها الفني. ومن هؤلاء يأتي الفرنسي (هنري ماتيس 1869 1952) الذي دفعته التجربة إلى عدة زيارات للشرق أهمها رحلات المغرب والجزائر وقبلهما التعرف على التراث الأندلسي (نقطة الوصل بين الشرق والغرب في العصر الحديث).


كان ماتيس مهموما بالبحث عن الخصوصية المميزة للفن الشرقي، واللهث وراء وحي جديد والإمساك بأطراف خفية لعالم محبب له، رغم مفارقته لحضارته ونظرته للفن والعالم.. وهذا ما يفسر قيام (ماتيس) برحلته إلى الجزائر في 1906 وتحديدا لمدينة (بيسكرا)، ورغم إقامته لفترة طويلة إلا أنه لم يخرج من هذه الرحلة إلا بلوحة واحدة رسمها لمنظر طبيعي!


لكنه بالمقابل حمل معه سجاجيد وقطعا زخرفية ونحاسية تعبيرا عن ولع بالشرق وفنونه بدأ منذ القرن التاسع عشر، حيث كان مهتما بمجموعات السجاد في اللوفر ومتحف الفنون التزيينية، وزار بكثير من الاهتمام أجنحة بلاد الشرق ومجموعة الفن القبطي في المعرض العالمي بباريس عام 1910 وعقد صداقات عديدة مع المهتمين بالفن الإسلامي ومع المختصين ببيع القطع القديمة، بل واشترى هو نفسه عددا منها ضمن مقتنياته الخاصة.


وفي أول معرض دولي للفن الإسلامي في ميونيخ 1910 حصل (ماتيس) على فرصته الحقيقية في الاقتراب من جماليات الفن الشرقي التي تجذبه منذ وقت طويل وزار هذا المعرض عدة مرات برفقة زميله (ألبير ماركية) وكان مفتونا بمجموعات السجاجيد والأقمشة على وجه خاص.. ربما كان (ماتيس) يبحث عن السرور وراء الهندسة والصرامة والتفتيت الدقيق للعالم الذي يكشف عن بهجة مستترة، وربما هذا أيضا ما جعله يسير وراء اكتشاف أكبر في مساجد وقصور وحدائق الأندلس في قرطبة وغرناطة وأشبيلية.


وكان السؤال المحير (لماتيس) والمحرك له في آن واحد هو: كيف يمكن أن نبني فنا زخرفيا، كما هي الحال في التقاليد الشرقية، محتفظين تماما بوضعية الرسام الأوروبي ونظراته الخاصة، أو بمعنى آخر كيف يمكن زعزعة المعطيات الخاصة بالفن ونظرته الخاصة لدى الفنانين في أوروبا، ونظرائهم في الشرق من أجل الوصول إلى مزيج جديد ومميز.


هذا ما جعل (ماتيس) يشرع في رحلته إلى المغرب في 1912 للبحث عن منطق خاص يصنعه التجاور الساحر للألوان في العالم. وفي مدينة (طنجة) كانت المفاجآت التي صدمت ماتيس، عندما وجد مساحة كبيرة من الظلالة بين ما سمعه وعرفه عن الشرق وبين الحقيقة التي يبدو عليها هذا المكان، كان ماتيس أشبه بالمستشرقين الذين يبحثون عن مغزى حقيقي للحياة.. لذا فقد صدمته الصورة الإنسانية وتفاصيلها، بل وطبيعته الجغرافية في المغرب على عكس ما كان يعرفه ويشاركه فيه أغلب الأوروبيين.. على أن الشرق وخاصة شمال أفريقيا أرض قاحلة.


لذا كانت النباتات هي أول ما يصدم الفرنسي (ماتيس) في رحلته، وأول ما يدعوه للرسم، غير أن مشاعر ماتيس خلال رحلته الأولى للمغرب كانت قدرا هائلا من الألم والمعاناة.. حالة تشبه التمزق الإنساني الذي يدفعه التجريب والإنجذاب نحو المعرفة. يقول (ماتيس) عن هذه المرحلة من حياته (ما كان يمكن للوحات التي رسمتها هناك أن تنسى العذاب الذي كنت أعانيه للتعبير عن إحساساتي في الرسم.. كان علي أن أكون اثنين وأن أترك واحدا منهما مذعورا مليئا بالشكوك كي أستطيع أن أنعم بلحظات من السكينة تسمح لي بالعمل والرسم بعمق). وهكذا استمرت رحلة ماتيس المؤرقة حوالي أربعة أشهر قضاها في التفاعل مع تيمات ونماذج الفن الشرقي والتعمق فيما تحمله من ثراء للدلالات التشكيلية بعدها عاد إلى فرنسا ليلحق بركب الحركة التشكيلية المزدهرة وقتها، حيث كانت باريس تشهد نشاطا ملحوظا وتطورا للتكعيبية وإقامة أول معرض للمستقبلين الإيطالين..وكان ماتيس بعد ثقته في انتصاره القوى على أزمته المعرفية والشعورية في المغرب، يشعر بقدرته على مواجهة.


الساحة الباريسية، وهذا ما يشهد عليه نشاطه الحافل خلال هذه الفترة حيث عرض 14 لوحة مما رسمه في المغرب في جاليري (برنهايم جين)، واستقبلها النقاد بشكل جيد، غير أن العالم الباريسي وقتها كان مشغولا بهموم مختلفة غير فكرة التفاعل مع الشرق.. حيث كانت المرحلة المضطربة على حافة الحرب العالمية الأولى.. والتي قامت بالفعل ليبقى (ماتيس) الذي تم إعفاؤه من الجيش، مع قافلة من الفنانين التشكيليين في فرنسا مثل (بابلو بيكاسو) و(جوان جريس) و(جينو سيفيريني) وغيرهم.


ولأن الرحلة داخله لم تنته ولم يصل لشعوره بالقدرة على المزج الحقيقي بين الحالتين الغربية والشرقية، سافر ماتيس مرة أخرى إلى شمال أفريقيا وعاود زيارة المغرب ومدنها المختلفة، هذه الرحلة التي كان يتعجلها من أجل رؤية الأماكن التي سكنته منذ أن تركها.. وكان اللقاء الثاني مليئا، بالإرتياح والبهجة ويقول بنفسه: (مالم أكن أظنه موجودا في لوحاتي وجدته ماثلا فيها بالفعل. وتأتي هذه المرحلة غير المسبوقة لتشهد غنى ووفرة في أعمال (ماتيس) خلال إقامته الثانية بالمغرب في حالة تشبه الإحساس بالصفاء الذي يتبع الأزمة وخلالها خرجت لوحات ماتيس العديدة.. (على الشرفة، بابا القصبة، ميموزا) نافذة مفتوحة على طنجة، فاطمة الخلاسية، زهرة واقفة، زهرة جالسة، المقهى المغربي، وغيرها.


وعقب نهاية هذه الرحلة بدأ ماتيس وكأنه قد قرر الإبتعاد عن رؤيته هذه، وعودته مرة أخرى إلى طريقة في العمل تعتمد على الموديل.. حيث قدم عدة رسومات بداية من 1916 بدأها بالموديل الإيطالية (لوريت) التي استمرت معه قرابة عام وعمد خلال رسوماته هذه إلى الإشارات الشرقية فنجدها ترتدي قفطانا أو غندورة خضراء أو تضع على رأسها العمامة، الجو الشرقي عامة والمغربي خاصة يبدو واضحا في رسمه للموديل (لوريت)، ويتابع ذلك مع (أنطوانيت أرنو) الصبية التي رسمها شبه عارية وبعدها (هنريت واريكاريد) التي لعبت معه دور الموديل الخاص من 1920 / 1927 وخرجت لوحاته التي تحمل إسما واحدا (الجارية) والتي حملها بنوع من الترتيبات تشبه الإخراج المسرحي من حيث تجهيزه للديكور والملابس والأدوات لتقديم تفصيلاته، الخاصة ومستعينا بما أحضره معه من المغرب من ملابس وحلى ومساحيق بل.


ومناضد مطعمة بالصدف ومشربيات وسجاجيد وأقمشة كلها تحمل الطابع الشرقي.. وقد انتقد (ماتيس) بسبب لوحاته هذه، عن (الجواري) وإتهم بأنه نوع من الاستشراق الجديد وعودة إلى الوراء والتوافق مع أفكار النظام عن ثقافة، وحضارة مختلفة، ونفس الإتهام وجه إلى عدد من معاصريه ممن كرروا أشكالا قريبة وأحيانا مشابهة جدا مثل (أولكان) عند بيكاسو، و(دروين) عند(جريس)، و(الإيطاليين) عند (دروين) والاسبانيات عند (بيكابيا)..